الجسد والعمران وإنتاج الطاعة

shadow of person against white panel glass door

تتفاعل أجسادنا وفقًا للشعور الذي تولّد في لحظةٍ ما، قد يكون بسبب وجودنا داخل مكانٍ ما، عمران وأبنية فاخرة، أحد المولات الضخمة التي ربما تعزّز من شعور الإنسان بذاته، لأنه يملك هذه الضخامة من الأدوات الحداثية التي تُسيّر حيوات البشر، أو اختفاء لذاتٍ آخر، شعر أنه أقل قيمةً من كلّ الأشياء حوله. يتولّد من كلاهما، تماهياتٍ جسدية تدل على الذي وُلِّد بواسطة هذا العمران.

كذلك السجين، الذي يخضع محاصرّا من معمارٍ ضخمٍ ذي بنيّة خرسانية قويّة لسنوات طويلة، فإنّه يتولّد لديه شعور بالخوف نتيجةً لعدة سياساتٍ وفق حياةٍ مرئيّة جديدة، حدِّ وصف الفرنسي ميشيل فوكو [1]. تلك المشاعر المولودة، تساعد على هندسة وإعادة إنتاج تماهياتٍ جسدية خاصة، كلها تدّل على الطاعة والخضوع للسلطة السجينيّة القائمة على حياته. من هنا نحاول مناقشة تأثير عمران السجن على السجين في مصر، من خلال تناول يوميّاته داخل ذلك العمران. 

العمران وإنتاج الطاعة

كما تذهب العائلات الأكثر غنى إلى السكن في التجمّعات السكنية (الكومباوند COMPOUND) ذات الامتيازات الخاصة، من حيث توفّر مجتمع متجانس، من الطبقة الاقتصادية والاجتماعية، حيث النفوذ والسلطة المتقاربة بين الجميع، يهرب هؤلاء إلى ما بعد أسوار تلك التجمّعات العالية، بعيدًا عن وسط المدينة غير المتجانسة في طبقاتها، بعيدًا عن العشوائيات، المخاطر، الجرائم، وغير ذلك من متطلّبات ولادة الأمن والأمان لديهم. على النقيض تمامًا، يذهب السجين إلى ما وراء أسوار السجون، حيث تبدأ السلطة في عزله عن المجتمع، بأسوار عالية، ونظام حياتيّ صارم، يعيش من خلاله في خوف وخضوع دائم.

قبل الحديث عن العمران، لا بد من التعرّف على السياسات الحياتية التي تتّبعها السلطة العقابية مع السجناء، تلك السياسات لا تنفكّ، بل هي تتمفصل مع العمران الذي بدوره يكمل مشروع هندسة السجين مرةًّ أُخرى. تستقبل السلطة العقابية سجينها، بالضرب المبرح فيما يعرف بالتشريفة، بعد ذلك يدخل إلى التفتيش المُهين، الذي يُعرّي الجسد سواء كان السجين رجلًا أو أنثى، بالإضافة إلى استباحة خصوصية السجين، بدعك خصيته أو عند السجينة بدعك المهبل وفتحات الشرج، حتى الوصول إلى تبرّز السجناء أمام السلطة لمعرفة إن كانوا يُخبئون أشياء مخالفة في فتحات شرجهِم، إلى مزيد من الإجراءات حتى تسكين السجين في زنزانة لا آدمية يبقى فيها لسنواتٍ طويلة [2].


"تستقبل السلطة العقابية سجينها، بالضرب المبرح فيما يعرف بالتشريفة، بعد ذلك يدخل إلى التفتيش المُهين، الذي يُعرّي الجسد سواء كان السجين رجلًا أو أنثى، بالإضافة إلى استباحة خصوصية السجين"

بعد تلك الإجراءات، يتفاجأ السجين أنّه محاصر ليس فقط، بسياسات مرئية مهينة تعمل على محو كينونته وذاته وتحويله من إنسان له اسم وذات، إلى مجرّد رقم وسط أرقام أُخرى ليس لها من ذواتها شيء، بل محاصر من مبانٍ ضخمة وصلبة ومعقدة التركيب والهندسة، مبانٍ ضخمة مقسمة إلى زنازينٍ صغيرة، مكدسة بالأجساد التي هي أرقامٌ بنظر السلطة لا أُناس يمتلكون أرواحا وأحاسيس. ذلك التكدّس وسط تلك المساحات الضيقة، يجعل حياة السجين جحيميّة يفتقد فيها أي معنى لوجوده، حيث تتراكم الأجساد مفترشةً على الأرض فوق بعضها، بل يتبادل البعض ورديّات للنوم وأُخرى للوقوف، لعدم سعة الزنزانة لنوم الجميع، كما يحدث في بعض زنازين أقسام الشرطة ومراكز الاحتجاز الفورية، ما يساعد على استباحة السجناء خصوصيات بعضهم البعض، بل وتحدث انتهاكات العنف الجنسي والجسدي كما يروي الكثير من السجناء، أو حتى في أدبيات السجون كما حكاها صنع الله إبراهيم في روايتيّه، الواحات وشرف [3].

ليست فقط الضخامة والصلابة والتعقيد والضيق الذي يمتلك العمران به الإنسان السجين، بل الألوان السائدة حوله كلّها الذي تتمتّع بالدكونة. الأسود كلون القضبان، والرمادي وهو اللون المطلي به جميع الجدران والحوائط التي تحيط بالسجين. هذان اللونان في علم الألوان، مثيران للنشاط العقلي والعصبي للسجين، حيث يمدانه بشعور الحزن والاكتئاب، فضلًا عن أماكن تواجد تلك الزنازين في الأرض أو حتى تحت الأرض، ما يستدعي إحساس الدنو النفسي، أيضًا في معظم المؤسسات السجينيّة تجد أقفاصًا من حديد، كما هي الأقفاص في حديقة الحيوانات، يتم في تلك الأقفاص تفتيش السجناء، ووضعهم عرايا مقيّدينَ فيها أثناء ضربات الشمس الحارقة كنوع من العقاب، أو عند انتظار خروجهم للجلسات، أو الزيارات، حيث يقف السجين بداخل القفص وعائلته بخارجها، كما يقف الزائر وهو يلاعب حيوانه عند زياراته.

بعدما تتفاعل السياسات الحياتية مع عمران السجن، وبمرور الوقت يُعاد إنتاج هندسة الجسد لدى السجين طبقًا للحياة المرئية الجديدة، تماهيات الجسد كلّها تدل على الخضوع والطاعة لتلك السلطة، وكأن الجسد الإنساني تأكد أنّه رهين سلطة جديدة، سلطة لا يستطيع اعتراضها، سلطة قاهرة أكبر منه بكثير حسب وصف الباحثة المصرية بسمة عبد العزيز، عليه تنفيذ سياستها وفقًا لما تُمليه عليه [4]. فتظهر عليه بعض التماهيات التي بدأت بالفعل تكون جزءًا من حياته المرئية داخل السجن مثل التقرفص، أي الجلوس على الأرض بواسطة القدم وهي مقوّسة، وذلك في مجموعات عند الانتظار إلى دخول الزيارات أو التفتيش. اليدان مستقيمتان بجانب الخصر أو وراء الظهر، والوجّه والصوت منخفضان عند التحدّث مع رجال السلطة، وعند دخول رجل السلطة إلى الزنزانة بشكلٍ مفاجئ لأي سببٍ، يقف جميع السجناء من جلوسهم، وأوقات يُعطون وجوههم للحائط ويرفعون أيديهم لأعلى، وغير ذلك من الروتينيات الجسدية التي أصبحت متلازمة للسجين طيلة فترة بقائه داخل المؤسسة العقابية.


"حوّل العمران السجيني هذا الخوف إلى خضوع تام للسلطة بعد أن نزعت عنه ما يليق به كإنسان له روح، وحوّلت السجين إلى مادة شيئيّة مرقّمة وسط الكثيرين بلا قيمة"

أنتجت السياسات المرئية للسجين التي تفرضها عليه السلطة بواسطة القوة الغاشمة، حالة من الخوف والرهبة منها، أيضا حوّل العمران السجيني هذا الخوف إلى خضوع تام للسلطة بعد أن نزعت عنه ما يليق به كإنسان له روح، وحوّلت السجين إلى مادة شيئيّة مرقّمة وسط الكثيرين بلا قيمة. أيضًا تناول الكثير من الباحثين، مثل الجغرافي البريطاني نايجل تريفت، والألماني الاجتماعي جورج سيمل، وغيرهم علاقة الحسّ بالمكان، بعيدًا عن المؤسسات العقابية حيث المدن العمرانية ذات الأوصاف والتقنيات الحداثية.

 

الهوامش:

 1-  ميشيل فوكو، المراقبة والمعاقبة: ولادة السجن، ترجمة د. علي مقلد، The Body, Urbanism,